الجمعة، 9 مايو 2014

تحليل أبيات شعرية لعمر بن أبي ربيعة


أ‌-     الأفكار والمعاني:

·        يتعرض الشاعر في هذه المقطوعة لحادثةٍ من واقع حياته العابثة، حيثُ يصف إعجابه بجمال امرأة رآها أثناء رمي الجمرات، في موسم الحج، فأخذ يتغزل بجمالها شعرا، وهذا الموقف شبيه بمواقف عدة، شبَّب فيها الشاعر بالجميلات من الحاجّات في ديوانه، إذ المعروف عنه أنه كان يتخذ أحسن زينته في موسم الحج ويتعرَّض للنساء الجميلات، مشببا بهذه ومتغزلا بجَمال تلك، مصرِّحًا بهذا علانيةً في شعره، ومن هنا فقد سُمِّيَ هذا الصنف من الغزل بالغزل الصريح، وهو مرآةٌ صادقةٌ لحياة الشاعر ابن أبي ربيعة العابثة اللاهية، وتهافته على المرأة وبحثه عن شتى سبل الاتصال بها، لهذا فقد طغى غرض الغزل على كل ديوانه، وكان على اقتدار كبير في هذا الفن، مما حدا بالقدامى إلى اعتباره زعيم مدرسة الغزل الصريح في العصر الأموي، ومن المحدثين من زاد على هذا، فقد اعتبره د. طه حسين زعيمَ الغزلين جميعا 1.

·        نرى الشاعر يقتصر في افتنانه بجَمالِ محبوبته، على ما رآهُ من معصمها، وكفها المخضوب، وبنانها، أثناء رميها للجمرات، فهو إعجابٌ حسِّي بالمرأة، قائم على الوصف المادي لجمالها، وهذه سمة بارزة عند أصحاب الغزل الصريح، فهم يعنون غالبا بوصف المفاتن الحسية في جسد المرأة، فيكون حبهم للمرأة هو حب لجمالها المادي البحت، ومن هنا تتعدد لديهم المحبوبات، فلا ينتهي أحدهم من حب إحداهن، إلا ويجذبه جمال أخرى، متمثلين في هذا ببيت ابن أبي ربيعة الشهير:
سلامٌ عليها ما أحَبَّتْ سلامَنا   ***   فإن كرهتهُ فالسلامُ على أخرى
وهذا على عكس أصحاب الغزل العذري، من أمثال جميل بن معمر وقيس بن ذريح، فحبهم يتسامى عن اللذات الحسية، فهو حب معنوي، ومن هنا كان الشاعر يُخلص في حبه لمحبوبة واحدة فقط، وغالبا ما يُلحَقُ اسمُها باسمه، كما قالوا جميل بثينة، وقيس لبنى، وكثيِّر عزة.

·        في البيت الثالث يُشير الشاعر إلى أن اتفاقًا على اللقاء في موضع الثنية بينه وبين محبوبته قد حصل، وأن هذا اللقاء قد تم، وأنها هي التي بادرته بالسلام، وكأنه يُلمِّح بهذا إلى إقبالها الشديد عليه ورغبتها فيه، وهذه تيمة و ظاهرة في الغزل العربي لم تُعرف قبل عمر بن أبي ربيعة، وهو أن يكون الشاعرُ مركز اهتمام محبوبته، فهي التي تهيم به، ويأسرها حبه، وتترقبه و تتعقبه، ولو قرأنا ديوان عمر بن أبي ربيعة، لوجدناه هو المحبوب في كثير من قصائده، تتهافت عليه المرأة، حتى إنه لَيصوِّرُ كَلَفها به ولحاقها له، مع تمنُّعه عنها وتأبِّيه، يقول في إحدى قصائده:
قالتْ لِترْبٍ لها تُحدِّثُها   ***   لنُفسِدَنَّ الطوافَ في عُمَرِ
قومي تَصَدَّيْ له ليعرفنا   **   ثم اغمزيهِ يا أختِ في خَفَرِ
قالتْ لها قد غمزتُهُ فأبى  **   ثم اسبطَرَّتْ تسعى على أَثَري
ولم يكن وصفه لذاته بهذه الطريقة من فراغ، فقد كان عمرُ ذا مالٍ وجمالٍ ونسبٍ وحسبٍ، فليس بغريب أن تستبق النساء إلى مودته، إلا أن كثرة وصفه لذاته في قصائده على هذا النحو، جعلت النقاد القدامى، وبعض المحدثين كذلك، يجعلون سبب هذا الوصف ما رأوهُ فيه من تيهٍ وغرورٍ ونرجسيةٍ، و في الأغاني أن ابن أبي عتيق قال له ذات مرة: لم تُشَبِّب بها و إنما شبَّبتَ بِنفسك. وقد وقف د. طه حسين موقفا وسطا من هذا، فاعتبر حب النساء له و تهالكهن عليه واقعا حقا، قام الشاعر بوصفه، دون أن ينكر أن يكون هذا قد اضطره إلى شيء من التيه و الغرور.

·        ويأتي البيت الرابع حاملا قدرا من التظرف أراد الشاعر توظيفه في النص، أو لعله أنشأ الأبيات فقط من أجله، فإنك لا ترى في هذه الأبيات لوعة المحب و شوقه إلى محبوبه، و لا عذاب العشاق و دموعهم، و لا شكوى الفراق أو الصدود، كما هو شائع عند شعراء الغزل، بل إن الهدف الأوحد من هذه الأبيات الغزلية هو الطرافة و الظرف، واللذان تجدهما حاضرين في البيت الأخير، حيث يُشير إلى أن جمال الموصوفة قد أذهله و أنساه عدد الرميات التي رماها، بالرغم من مقدرته الحسابية! من هنا يمكن القول إن فكرة القصيدة قائمة على البيت الأخير فيها، و لا نغفل أن نذكر أن لهذا الغزل الظريف –إن جازت تسميته بهذا- قرائن كثيرة في ديوان الشاعر، تجعل منه مذهبا كان الشاعر يتبعه في كثير من قصائده، و لعل شيوع الغناء و مجالس اللهو في بيئة الحجاز، قد ساهم في اتجاه الغزل هذا الاتجاه، ومن ثم يمكن القول إن مثل هذه المقطوعات كانت مما يطلبه المغنين في أغانيهم، و مما يأنس له مُرتادو مجالس اللهو والطرب، لما لها من ظرافة تبهج المستمعين. 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1.      مقالة للدكتور طه حسين بعنوان " زعيم الغزلين عمر بن أبي ربيعة "، نشرت بجريدة السياسة في 10 ديسمبر 1924 م.



ب. اللفظة المفردة:

    جاءت ألفاظ المقطوعة سهلةً واضحة المعاني، تخلو من أي جفاف أو غرابة، فهي مطبوعة بطابع حضري رقيق، مما يتناسب أولا مع طبيعة الشاعر و بيئته، فهو من بيئة حضرية مدنية، و مما يتناسب ثانيا مع الغرض المنشود من الأبيات، وهو الغزل، و الذي تناسبه رقة الألفاظ و سهولتها.
    وقد جاءت أغلب الألفاظ مطابقة لمعناها المعجمي، خالية من الدلالات الإيحائية، ما عدا قوله (شمسٌ) في البيت الأول، حيث أراد بها إشراق جمال محبوبته على سبيل الاستعارة. و لعل خلو الألفاظ من الإيحاءات مرده إلى أن الشاعر في خِضمّ سرد تجربة واقعية خاضها، فهو يسرد موقفا عايشه أثناء تعرضه للنساء في موسم الحج، فلا ريب من أن تقترب ألفاظه من أرض الواقع، و لا تتجاوزه بالإيحاء إلا قليلا.
    وقد زاوج الشاعر في ألفاظه بين استخدام الأسماء و الأفعال، فجاءت الأسماء -في قسمٍ منها- أعلاما تدل على المكان، مثل: (المحصَّب) و (منى) و (الثنية)، و في القسم الآخر أسماءَ ذواتٍ جامدة ، مثل: (شمس) ، (معصم)، (كف)، (بنان)، (البغل)، (الجمر) ، كما جاءت الأفعال مناسبةً للسرد القصصي الذي كان الشاعر في صدده.



ج. العبارة:

غلب على الشاعر في أبياته استخدامُ الجملة الفعلية عوضا عن الاسمية، ولعل مرد هذا إلى أن الجملة الفعلية أقدر على وصف حركة الأحداث من نظيرتها الاسمية، و أنسبُ للطابع السردي الذي سارت عليه الأبيات.

كما زاوج الشاعر بين الأساليب الخبرية والإنشائية، فجاءت الأساليب الخبرية لتقرير الأحداث التي عايشها الشاعر، في حين جاءت الأساليب الإنشائية لأغراض بلاغية، مثل أسلوب القسم في قوله (فوالله ما أدري)، والغرض منه هو توكيد النفي، و أسلوب الاستفهام في قوله: (بسبعٍ رميتُ الجمرَ أم بثمان ؟) و أداة الاستفهام هنا محذوفة فالمقصود: ( أبسبعٍ رميتُ الجمر أم بثمانِ ؟) والغرض من الاستفهام هو التعجب والدلالة على ذهول الشاعر من جمال المحبوبة.




 د. الصور الفنية:

    جاءت الصور الفنية قليلةً في الأبيات، و لعل مردَّ هذا إلى أمرين: الأول هو قلة عدد الأبيات التي استخدمها الشاعر، حيث لم يصف أحداث مغامرته العاطفية إلا في أربعة أبيات، و الثاني هو ما تم ذكره سابقا من أن الشاعر كان يسرد أحداثا واقعية جرت له، مما جعله أقرب إلى الواقع من الخيال.
    لذلك لم ترد إلا صورةٌ فنيةٌ واحدةٌ، جاءت في البيت الأول وهي ( لقد عرضت لي ... شمسٌ )، فقوله شمس استعارة تصريحية، حيث شبه المرأة التي رآها بالشمس، و حذف المشبه (المرأة) و أبقى على المشبه به (شمس)، على سبيل الاستعارة التصريحية، ووجه الشبه هو إشراق جمال المذكورة و نورها.


 

و. الإيقاع و الموسيقا:

جاءت الأبيات على البحر الطويل، والبحر الطويل هو من أنسب البحور للقصص، ذلك لأن " في خفاء جرسه، واعتداله، و طول نَفَسِهِ ما يعين على القصص، وعنصر القصص و النعت فيه من الطراز الذي يدعو السامع أن يصغي ويتفهم قبل أن يهتز ويرقص" 1.

وجاءت القافية نونًا مكسورةً، و النون حرفٌ أنفي مجهور، فيه نوع من الأنين، والكسرة فيها انكسار و تحسر، وكلا الأمرين من نونٍ و كسرةٍ، جاء مناسبًا لغرض الشاعر، فالأبيات على ما فيها من ظرافة في نهايتها، تحكي عن تحسَّر الشاعر على ضياع فرصة اتصاله بتلك الفاتنة التي رآها، ذلك أن بغله اللعين – على حد تعبيره- قد نازعه العنان أثناء لقائه بفاتنته، و لم يثبت به في مكان لقائه بها، فضاعت عليه بالتالي فرصة الحديث مع محبوبته و الاتصال بها، فهو لهذا متحسر، و بالتالي جاءت النون المكسورة مناسبة لهذه الحالة الشعورية.

وبالإجمال، فقد جاءت الموسيقى، من وزن و قافية، مناسبة لغرض القصيدة، و الحالة الشعورية الغالبة عليها، فالبحر الطويل جاء مناسبا، لما فيه من موسيقى خافتة تعين على القص و السرد، ولا تشغل الأذهان بموسيقى صاخبة، و النون المكسورة جاءت مناسبة للحالة الشعورية التي عليها النص، وهي التحسر على ضياع فرصة الاتصال بتلك المرأة الجميلة.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1.      د. عبد الله الطيب: المرشد في فهم أشعار العرب و صناعتها، الجزء الأول، الدار السودانية، الخرطوم، الطبعة الثانية، بيروت، 1970، ص 368.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق